فلسفة العاشق ومخيال الشاعر.. حين توجه المهري بقصيدته لتمّام

أدب وفن | 17 يوليو 2023 06:12 م

هل كل الشعر يعد معبرا عن المشاعر.. ان الاجابة على سؤال كهذا تقود الى سؤال آخر.. لماذا الشعر الشعبي المكتوب باللغة المحلية، والمعبر بالكلمات الشعبية المتداولة عن شغاف القلب هو الاكثر انتشارا وحضورا عن من سواه من الاعمال الادبية؟

حشد نت- كتب/ سامي الشاطبي:

 

" قلبي معاه ياصاح مرهون..

ريمٍ فرد … بالذوق والزين " 

***

الشعر حياة: 

انه الاداة الاكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والمكنونات.. فهل كل الشعر يعد معبرا عن المشاعر ..ان الاجابة على سؤال كهذا تقود الى سؤال اخر ..لماذا الشعر الشعبي المكتوب باللغة المحلية، والمعبر بالكلمات الشعبية المتداولة عن شغاف القلب هو الاكثر انتشارا وحضورا عن من سواه من الاعمال الادبية؟ 

الإجابة ببساطة، لأنه ينبع من روح المجتمع متجها إلى المجتمع بلغته، معبرا عن قضاياه وآماله وأشواقه بالكلمات المتداولة والتي يفهمها ابناء المجتمع.

ان الشعر الشعبي خلاف الشعر الحديث أو الحداثي لا يتخذ من الكلمات الطنانة والمفردات الملونة قاعدة للانطلاق بهدف الوصول الى عامة الناس، بل يهدف الى الوصول الى فئة او شريحة من الناس تاركا هدف الوصول الى عامة الناس للشعر الشعبي وانه وهذا الاهم يختزل بقية الانواع الادبية كالقصة والاقصوصة والخاطرة ويفتح مسارات ودروب للفكرة.

تماهــي: 

تتماهى القصيدة الشعرية الشعبية مع القصة ..وقصيدة عيسى المهري الاخيرة تتخلق اشطرها من قصة تحكي عن ذلك الحنين للمحب والبوح عنه لمكافئ آخر له..

المكافئ:

الموجه اليه البوح والذي يعادل المكافئ هنا هو الشاعر تمّام سعد كدّة المهري.. وقبل الشروع في قراءة القصيدة يجدر بي تقديم لمحات عن الشاعر تمّام سعد كدّة وتجربته الشعرية 

يعد الشاعر تمّام كدّة شاعر شعبي صاحب تجربة شعرية ممتدة.. له صولات وجولات في عوالم الشعر الشعبي..انه بتعريف موجز الشاعر العاشق لوطن لازال ينتظره والمنساق الى الكشف عن كل ما غمض من حيواتنا والمحب حد الارتفاع للمساجلات الشعرية والمناظرات الادبية.

في الشق الاخر يطل الشاعر عيسى بن سالمين المهري في قصيدته الجديدة متوجها الى الشاعر تمام ..وصولا الى المجتمع..حيث يناغي الشاعر عيسى الشاعر تمّاما..تتكاشف الاسئلة الحيرى لتتلاقى روحا الشاعرين على مائدة القصيدة العامرة.

تجليات:

اذا ..تتجلى امام الانظار التخريجة التالية 

شاعر+قصة+بوح+ شاعر= قصيدة

شاعر يجيد الاشتغال على الشعر الشعبي وقصة تتضمن قصيدته وبوح يتوجه بلغة الناس الى شاعر اخر مكافئ له

بامــوت ياتمّام مغبـــون

ساهــر ولا غضّيت بالعين

شطر يدفع بالموجه اليه القصيدة للانتباه واتخاذ التدابير الحسية والقلبية للاستماع إلى النداء .. الثقة من انتباه تمّام تدفع ببطل قصيدة عيسى المهري الى الاسترسال..فالشاعر اكثر احساسا من سواه..الشاعر اكثر دراية بمرموزيه القصائد وما تحمله في باطنها من دلالات..ولذلك يتوجه اليه مباشرة ودون رتوش ..وللمعلومية "ولا غضّيت بالعين" لا تعني "ولا غمّضت عيني" بشكله الجزئي ..انها تشير الى ان تلك العين لم تغمض نهائيا ولا حتى ولو قليل بشكل كلي.. 

 في داخلي.. بي جرح مكنون 

يالين نبّت …. بين ضلعين

لم يكشف في هذا البيت عن مراده من لفت انتباه مكافئه الشاعر تمّام..لقد دفع ببطل قصيدته الى صعود اول درجة من درجات البوح واوقفه في لحظة عاصفة ..لحظة وضعت الشاعر تمام كمتلقي وكمكافئ امام وصف بديع للجرح المستور والخفي والذي يمتد ناخزا القلب كما امتدت جذور الشجرة في عمق الارض (الخفي) وانتشرت تفرعاتها وسيقانها حت بانت للعيان اوراقها ( المنظور) بين فتحة الضلوع.

ويمضي صاعدا في درجات البوح..

لو بي مرض ياخوي بيهون

وايد … دكاتر والمــداوين

يشير الى الجرح وعدم نفع الاطباء المدنيين واطباء ما يسمون بأطباء الطب الشعبي..

لكن ..هذه الكلمة تقود دائما الى التوقف عن الاستمرار في صعود بقية درجات السلّم..

لكن بي من شوق مزيون

يبّس عـروقي .. والشرايين.

فالذي في ثنايا بطل القصيدة ليس جرحا منظورا بل جرحا محسوسا سببه ذلك المزيون أي ذلك الجميل.

ومتجاوزا ..يصعد الدرجة الثانية من سلّم البوح لتتكشف الحقائق القلبية على صفحة الصداقة والحبر كاحد ادوات المشترك الشعري بينهما 

وامسيت من فرقاه محزون..

خوّفت ناسي … والمحبين.

ويصعد درجة اخرى مقتربا من نهاية السلم بفارق درجتين..يتبدى تفهم الشاعر واستيعابه للحظة الشاعر والتي يتداخل فيها السهر بالحزن والخوف..

اللي سكن في داخل النون

متصــورٍ .. مابين جفنين

من سكن في نون العين والصق صوره ما بين الجفون هو ذلك الجميل المزيون مسبب الجرح ..ويصعد درجة تليها درجة اخيرة..

غرّق جفوني وسط العْيون

يالين جًرّح محْجر العين  

كما ليس من السهل وضع تعريف للشعر فذلك الشطر من النوع السهل الممتنع ..سهل قراءته واستيعابه وممتنع صياغة على شاكلته ..ان المرء ليقف عند الدرجة الاخيرة حائرا بين غرق الجفون وسط العيون ويالين أي حتى انفتاق محجر العين!

لقد شرع الشاعر عيسى المهري الكتابة من حيث انتهى من سبقه ..من الشعراء خاصة ممن تركوا تأثيرات عميقة واحدثوا تحويلات بنيوية في الشعر الشعبي العربي بشكل عام، وعيسى المهري في الشطران التاليين " قلبي معاه ياصاح مرهون..ريمٍ فرد … بالذوق والزين " لا يقف عند عتبه ما انتهى اليه الاخرون، بل يتجاوزهم الى افاق شعرية واسعة..تتفرد زيادة في الذوق بالجمال.

كنّي في جرح الشوق مديون..

واصبحت أسدّد وادفع الدين  

ان شعر المهري له سمات محددة فهو لا يقتصر على الجانب المادي كما الجرح والدين، بل يركز على الجانب الوجدانيّ والعاطفيّ أيضاً فالمعنى هنا لا علاقة له بالشيء المادي والملموس بل بالشيء المحسوس وغير المدروك للعيان ..لقد صار بالجرح مديونا ويدفع هذا الدين من جرحه ودمه وقلبه النازف.

عيسى المهري:

عرف الشاعر عيسى بن سالمين المهري كشاعر متعدد الاغراض.. تغّنى للحب والبلد ..الصحراء بكل ما تحمله من معاشات والمدينة بكل صخبها وحداثيتها.. وهذه القصيدة هي احدى القصائد السائرة رفقة قافلته الشعرية..

لكنّ يامر دوم ويمــــون

دامه سكن في ناظر العين

حتى عند حديثه عن تلك المرأة التي سرقت شغاف قلبه واحدثت ذلك الجرح يظهر جليا وبصورة رمزية تعلقه بالانسان كفلسفة والعين كمصدر لسكنها الى جوار الحكمة والدفء والحب والسهر على انغام القصيدة.. 

ريمٍ فرد … بالذوق والزين

ريمٍ فرد … بالذوق والزين..